الأحد، أبريل 18، 2010

أخاف عليكم من الحكّام السفهاء!‏

لا يخفى أنّ التحريض الغربيّ ضد النظام الإيراني ليس بدافع الحرص على الشعوب، ولا الدفاع عن حقوقها، فها هو يحمي دول السفهاء، الذين يسحقون شعوبهم، ويتوارثونها مع ثروات بلادهم، كما يُتوارث القطيع، والمتاع، على طول وعرض الأصقاع ما بين الشاطىء إلى الشاطىء، يحميها، ويرعاها، بل يقوّيها، ويطوّرها، حتى تستمر في أداء وظيفتها في تسخير بلادنا لأطماعه.

ولكن تعالـوا لنطرح السؤال الأهم هنا، أليس لولا ظاهرة دولة (ولاية السفيه)، لما استطاعت الجيوش الصهيوصليبية، إحتلال أفغانسـتان، ولاتدميـر أرض الخلافة، مستغلة تآمر دولة (ولاية الفقيه)؟!

 بل لما استطاعت دولة الصهاينة أن تذيق أمتنا ألوان الذلّ منذ ستة عقود مضت.

وأنَّه لولا حكامُنا السفهاء الذين أضاعوا كرامة أمَّتنا، لما أصبحت بهذه الحال شعوبنا، ولا غدت بهذه المثابة بلادنا، وديارنا.


فقد أجمع العقلاء أنَّ الداء الأخطر، والسبب الأكبر، إنمَّا يكمن في النظام العربي الرسمي، وأمَّا الأمـّة، فهي أمَّة الخير إلى يوم القيامة.

وقد قال الحق سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ)، فالله تعالى قد حصر السفاهة في هؤلاء الذين يبدلون شريعة الله بسواها، ويعرضون عن وحيه إلى غيره.

وفي الحديث الصحيح: (بادروا بالأعمال ستا: إمارةَ السفهاء، وكثرة الشُرَط، وبيعَ الحـُـكم، واستخفافا بالدم...) رواه الطبراني وغيره، فقرن بين حُكم السفهاء، القائم على العنف (المعبـَّر عنه بكثرة الشرط) وفساد القضـاء (حتى يُباع ويُشترى) والاستخفاف بدماء الناس.

وفي الحديث أيضا: (سيأتي على الناس سنواتٌ خداعاتٌ، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: المرء التافه يتكلم في أمر العامة) رواه أحمد وغيره.

فكيف لانحـارب (ولاية السفيه)، ونحن نرى أنها السبب الأعظم، فيما أصاب الأمّة من مصائب؟!


ولهذا فإن إعادة نظام الحكم الإسلامي، الذي وحده -بعد الله- الكفيل بوقف التدهور الحضاري الذي أوصلنا إلى هذا الحال، هو من أعظم فرائض العصر، ويجب أن تُسخـَّر له جميع جهود العاملين للإسلام.

وكفى دليلاً على ذلك، أنَّ الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، إنّما هو وسيلة لتحقيق هذا الهـدف الأسمـى، لتكون كلمة الله هي العليا.

كمـا أنَّنـا لو رجعنا إلى الذاكرة القريبة، إلى عهد الخلافة العثمانية، التي كانت تجمع الأمّة في كيان سياسي قائم على الجامعة الإسلامية، لوجدنا أنَّ الخلافة كانت تقوم بدورها في كفاية الأمّة شرّ المنافقين في الداخل، كما كانت تحول دون الغزو الصليبيّ لبلاد الإسلام، وكان العقيدة القتالية للخلافة مبنيّة على عقيدة الجهاد في الإسلام، وهـي أنَّ النظام السياسي مكلَّفٌ بحماية جميع بلاد المسلمين كافّة، وحفظها من أيّ غزو، أو وجود عسكري أجنبيّ على أرض الإسلام، وأنّه يفقد الشرعيّة إن فرَّط في هذا الواجب.

ولما أَسقط الغرب الصليبي الخلافة الإسلاميّة، بغية إلحاق الهزيمة الحضارية بالإسلام، كان أخطـر ما جاء به، هـو العقيدة الأوربية للدولة الحديثة، القائمة على رابطة التراب بدل الملّة، والقانون المادّي بدل الشريعة المنزلـة، ومفهوم جديد للأمَّة، لم يكن يعرفه المسلمون، ولاعلاقة له بالإسلام، بل يُبنى على البقعة الجغرافية المحدودة.

وكانت هذه الباقعة التي حلت ديار الإسلام، مطلع القرن الماضي، هي أشدّ ما طرأ عليه في تاريخه كلِّه.


وقد أحدث هذا الهجوم الثقافي، زلزالاً عظيماً في البلاد الإسلامية من جهتين:

الأولى: أنه فاجأ الفكر الإسلامي بغتة، حتى إنـَّه مضى وقت ليستوعب العلماء -وكثيرٌ منهم لم يستوعب حتى الآن!- حجم القطيعة الهائلة بين عقيدة الإسلام السياسيّة، وفكرة (الدولة القُطْرِية) الناشئة مع الاستعمار الغربي، وما يترتّب على هذه البدعة الجديدة، من تحديات كارثية على الرسالة الحضارية للإسلام.

والثانية: أنَّ الفكر الإسلامي سرعان ما وجد نفسه هـو، واقعا تحت مفهوم جديد للدولة، أنها آلـة تبتلع كلَّ شيء تحتها، ذات سيادة علوية مطلقة، يتركـَّز بيدها كلِّ وسائل العنف -حتى تجريم حيازة السلاح لغيرها-،كما يتركز بيدها مشروعة استخدامه أيضا، إضافة إلى إمتلاك جميع وسائل التأثير الثقافي.

وأخطر شيءٍ هنا، أنَّ الدين نفسه أخضعته هذه الدولة الحديثـة -لأوَّل مرَّة في تاريخ الإسلام- لها، فصنعت ديناً مبـدّلاً، استعملته ضمن كلِّ ما تستعمله من أدوات تحقّق السيطرة، والإنضباط، والخضوع، لمن تحت يدهـا.

حتى أصبح أمثَلَ المفكّرين (الإسلاميّين) طريقةً، ممن يخضعون لهذا (الغول المتوحش)، أعنـي الفكرة الأوربية للدولة الحديثة، من يبذل جهده في تكييفات متكلَّفة حداثية للعقيدة الإسلامية، ليجمع بينها وبين ولاء (التراب)، وعقيدة القانون الوضعي المادِّي، و(أخـوّة الوطنية)، وأمّة (الحدود السياسية السايكوسية)، نسبة إلى سايكس ـ بيكو!، مع ما في ذلك من تناقض واضح، مع الأصول التي يقوم عليها الإسلام، وتُبنى عليها حضارته.


وتحت هذا التحوُّل الأخطر في تاريخ الإسلام، حُشدت منذ مائة سنة، جيوشٌ من الأفكار الآفكة، لإحلال هذه العقيدة الجاهليّة العصريّة، محلّ عقيدة الإسلام، بدءًا من (علي عبد الرازق) في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، إلى آخر مُجعجع يخرج علينا في بعض الفضائيـَّات، يتفيهق في الترقيع لهذه الضلالات، من هذه الطائفة المنبطحـــة التي (صدَّعت رؤوسنا) بالتحذير من الغلوّ بالصالحين -وهو حقّ- ثم غلوْا في الفاسقين، بل أضلِّ الضالين! من الزعماء الفاسدين، وأنكروا (ولاية الفقيه الشيعي المعصوم) وأنزلوا على حكَّامهم ما هو أعظم من عصمة المرسلين!

وازداد الأمر خطورة، عندما عُدَّت الدولة القائمة على الفكرة الأوربية الضالـَّة، هي المؤتمنة على الإسلام، فدُمجــا زوراً وبهتاناً، وأتوا بدين مزيَّف جديد، (يعلمن) الإسلام، ويغلف العلمانية بغلاف الدين، فانفتحـت بذلك أبواب الشرور، ثـمَّ رُبي على هذه البدعة الشنعاء الصغيـر، وهرم عليها الكبير، ونشأت عليها طوائف، وهيئات، وبُنيت عليها التجُّمعات، والجماعات.


ثم بعدمـا استحكم هذا الشرّ المستطيـر، الذي لم ينج منه إلاَّ القليل، أذن الله تعالى بصحوة جديدة للأمّة، فأخذت تتلمّس طريقها لتصحيح المسار، وترسم الطريق لبعث الأمّة الإسلاميّة من جديد، أمّة الوحي، التي تربطها رابطة الإسلام، فتربط كلِّ شيء به، حتى الوطن، بين دار إسلام، ودار كفر، وتجمع الأمّة على وشيجة الإيمـان، وتعيد إخراج الأمّـة المجاهدة المرسلة للعالمين، لا أمّة القطعان المحصورة في حدود جغرافيّة رسمها المستعمر!

الأمّة ذات البصيرة، التي لاترضى أن تقاد إلاَّ لأهدافها، ولا تطيع إلاّ لمن يقودها بكتاب ربّهـا، ونـهج نبيّها.

ورغـم أنَّ هذه الصحوة المباركة، ما لبثت حتّى اصطدمت بواقع أنَّ فئـاماً عظيـمة من الشعوب قد طال عليها العمر، حتَّى نسيت ما كانت عليه قبل سقوط الخلافة، من اجتماعها على أمر الإسلام، وجهادها في سبيله.

فأصبحت الخلافة عند هذه الفئام، تاريخـاً رغبوا حتّى عن تذكـره، بل غدت الدعوة إليها جريمة، يعاقب عليها قانون الدولة الحديثة، وفق العقيدة الأوربية الإستعمارية.

رغـم هذا التحدِّي الكبير، فقـد نجحت الصحوة الإسلامية في نفخ الروح في ضمير الأمّة، واستطاعت أن تُلحق الهزيمة بجاهلية العصر، في كثيرٍ من المواطن بحمد الله تعالى، ولا يزال أمامها السبيل محفوفاً بالمكاره، وستبلغ الغاية المنشودة بإذن الله.


غيـر أنَّهـا لن تصل إلى منتهى غايتـها إلاَّ بثلاثة أمور:

أحدها: اليقين أنه لاخلاص للأمَّة إلاَّ بالعودة إلى نظام الحكم القائم على العقيدة الإسلامية، على أنقاض العقيدة الأوربية للدولة الحديثة، التي أضيف إليها في بلادنا التقسيم والتجزئة، لتبقى تلك العقيدة الضالة، تغذِّي تقسيمها، وتبقي أجزاءها متصارعة، ويبقى التقسيم والتجزئة، يؤكِّدان استمرار هذه العقيدة الجاهلية.

ولهذا فلابد من بذل غاية الجهـد، لنشر الوعـي، بأنّه لا قيام للأمّة إلاَّ بإعادة الحكم الإسلامي، القائم على عقيدة الإسلام السياسية، الذي يكون على رأسه خيـارُ هذه الأمة، ويستمدّ شرعيَّته من بيعة الأمَّة له، بيعة إقامة الشريعة، والجهاد في سبيلها، وإعلاء أمّة الإسلام على كلِّ ما سواهـا، وبأنَّ واقع الأمة السياسي الذي يقوم عليه النظام الرسمي العربي في شقّ، ورسالـة الإسلام في شقّ.

الثاني: العـلم بأنَّ هذه العودة لا ولن تأتي بالعمل المرتجل، فهي يقطعها العجلة، ويمُيتها الجهل، ويُضعفها التفرّق، ويعيقها التنازع.

الثالث: معرفة أنَّ جميع التجارب العصرية التي فشلت في الوصول إلى الهدف، هي من جهة أخرى كنزٌ من المعلومات المفيدة، لتصحيح الطريق، وأنَّ الاعتراف بفشل التجربة، ودراسة أسبابه، خير من التمادي في الباطل، والإصرار على العناد. 

والله أعلم وهو حسبنا عليه، توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكـلون.

__________________

المرجع: "سقوط ولاية السَّفيه!" مقال بموقع الشيخ حامد بن عبد الله العلي – للشيخ حامد بن عبد الله العلي. (باختصار و تصرف يسير).