السلطة التشريعية:
التشريع في الإسلام ـ تحليلاً و تحريماً، تصحيحاً و إبطالاً، في أفعال الناس و أقوالهم و اعتقاداتهم ـ إنما هو لربِّ الناس الذي خلقهم و رزقهم، و الذي يبعثهم من بعد موتهم ليحاسبهم عما قدَّموا في حياتهم الدنيا... و الناس بمعزل عن التشريع، سواء كانوا جماعة أو هيئة أو حتى أمة و دولة، و النصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً، و أقوال العلماء في ذلك واضحة جداً.
السلطة التنفيذية:
و هناك أمور ليست من التشريع، و إنما هي من التنظيم و الترتيب الذي بها ينتظم العمل و يحقق الأهداف المرجوة منه، فهذه لا حرج فيها ما دام أنها لا تخالف الشريعة في شيء، و هذا النوع من الترتيب و التنظيم أو التنظيم الإداري لا تستغني عنه أمة من الأمم؛ سواء كان ذلك في عصر التقنية المتقدمة، أو في الأعصر التي سلفت.
***
لكن هذه التنظيمات و الترتيبات الإدارية قد لا يظهر الاحتياج إليها دفعة واحدة، بل قد يظهر في زمن دون زمن؛ ارتباطاً بكثير من العوامل التي تؤثر في ذلك إيجاداً و عدماً، و لذلك فإن النظام السياسي الإسلامي لم يعتن بإيجاد تلك التنظيمات قبل الحاجة إليها، في الوقت الذي يعمل على إيجادها كلما حدث ما يستوجب وجودها، و هذه التنظيمات الإدارية أو المرافق يدل عليها الشرع؛ إما بالدلالة المباشرة عليها، و إما بالدلالة على أصل ترجع إليه، و إما بالبراءة الأصلية التي تقتضي أن الأصل في المنافع الإباحة إلا ما منع منه الدليل...
فمثلاً: قد تكون الدولة صغيرة، كدولة المدينة المنورة في أول أمرها، ثم تتسع الدولة و تكبر بالفتح، فتحتاج حينئذ أن تُقسَّم إلى وحدات إدارية ليسهل ضبطها و إدارتها، و يستتبع هذا التقسيم وجود ولاة و قضاة و أئمة و شرطة لكل قسم من الأقسام، و يحتاج ذلك إلى تنظيم و ترتيب لم تكن إليه حاجة من قبل التقسيم.
و كذلك أمور الجيش: فالجيش قديماً كان لكل مقاتل فيه سلاحه الخاص به، و كان مقدوراً على إحضار السلاح و صناعته بمجهود يسير، و مع التطور المذهل في أنواع الأسلحة و تقنيتها و الاحتياج إلى التدريب عليها قبل استعمالها، إضافة إلى استحالة قدرة الأفراد على صناعتها أو حتى شرائها، ثم الاحتياج إلى صيانتها و تحديثها، يصبح وجود جيش ثابت منظم و مدرب من الأمور التي لا غنى عنها للقيام بفريضة الجهاد ، و مع وجود الجيش الثابت تظهر الحاجة إلى التنظيم؛ كتقسيم الجيش إلى وحدات أو أفرع، كل فرع له سلاح يستخدمه، ثم وجود هيئة مسؤولة عن التدريب وأخرى عن الصيانة، و قس على ذلك أموراً كثيرة.
فهذه أمور لم ينظِّم الإسلام الجانب الإداري منها المتعلق بالخبرة البشرية و بتطورات الحياة و تقدُّم الإنسانية في معارفها؛ لأن هذا الجانب هو بطبيعته متغير متطور بتطور البشرية، و إنما بيَّن الشرع ما يتعلق بذلك من الحلال و الحرام و الصحيح و الباطل، و أطلق في كيفيات التحقيق و التنظيم و الترتيب و إنشاء المرافق المتخصصة التي تخدم تلك المجالات مع الالتزام بأحكام الشريعة و قواعدها و مقاصدها، و هذا لا شك أنه من طبيعة الدين الصالح لكل زمان ومكان، المُصلح لكل زمان و مكان؛ أن لا يُلزمهم بكيفيات تنفيذية يرتبط صلاحها أصلاً بالبيئة التي يُطَّبق فيها...
و إذا كانت الشريعة قد أطلقت الكيفيات في مثل تلك الأمور؛ فإن وضع كيفية لذلك و محاولة جعلها كيفية عامة غير مرتبطة بالزمان و المكان؛ هو أمر مخالف للإطلاق الذي جاءت به الشريعة و قامت عليه تلك الكيفية، و ذلك أن غالب الكيفيات إنما هي نتيجة اجتهاد قائم على تحقيق المصلحة في زمان محدَّد و مكان محدَّد، فلا يمكن عدُّه اجتهاداً ملزماً لجميع الأعصار و الأمصار، و لكن هذا لا يمنع من وضع نظام يكون محقِّقاً للمصلحة؛ على أن يرتبط دوام ذلك النظام بتحقيق المصلحة، فإذا تغيرت الظروف أو الأحوال التي بني عليها ذلك الاجتهاد؛ أمكن تغيير تلك التنظيمات أو الكيفيات إلى أخرى جديدة تحقق المصلحة نفسها....
و نؤكد في هذا الخصوص أن هذا تغيير في الكيفيات و التنظيمات المبنية على تحقيق المصلحة، و ليس تغييراً في الأحكام الشرعية؛ فإن الحكم الشرعي ثابت لا يتغير، و إنما الذي يتغير في هذه الحالة هو الطريق إلى تحقيقه في الواقع...
***
ضوابط التنظيم الإداري أو كيفيات التنفيذ:
كيفيات التنفيذ أو تنظيم العمل لا تجري هكذا مطلقاً من القيود، بل نحن هنا أمام أحكام شرعية ثابتة يجب أن تكون حاكمة و حاصرة لكيفيات التنفيذ، و هناك ضوابط شرعية لا بد من مراعاتها في اعتماد الكيفيات أو التنظيمات، و هي:
1 ـ أن تكون محقِّقة للمقصود الذي من أجله وُضعت.
2 ـ أن لا تخالف قاعدة من القواعد الشرعية أو مقصداً من مقاصد الشريعة.
3 ـ أن لا تخالف دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية.
4 ـ أن لا يترتب عليها مفسدة تربو على المصلحة التي تحققها.
__________________
المرجع: "مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي" – الشيخ محمد بن شاكر الشريف (بتصرف يسير).