الأربعاء، أغسطس 19، 2009

السياسة الإسلامية -5- الحكومة (الخلافة) في النظام السياسي الإسلامي.جـ3.

ذكرنا أن الخلافة نظام سياسي تتحقق فيه أحكام كثيرة، نشرع الآن في ثانيها:

2 ـ  أن يُسند إليه (أي القائم على النظام) ذلك المنصب بطريقة شرعية.

الشخص الصالح لتولي الخلافة هو من تتوافر فيه شروط الصلاح لذلك -كما أسلفنا-، ولا بد من التأكد من توفر هذه الشروط قبل إسناد الخلافة إليه، فتحقق الشروط مناط استحقاق الخلافة، وعملية التأكد من توفر هذه الشروط في الشخص تُسمَّى "تحقيق المناط" (المناط: هو موضع التعليق، أو هو العلة – المعجم الوسيط باختصار)، وعلى ذلك فدَوْر أهل الاختيار الذين يختارون الخليفة هو تحقيق المناط في الشخص، وإذا وجد أكثر من شخص تتحقق فيه تلك الشروط فتكون هنا المفاضلة بينهم على أساس مَنْ منهم تتحقق فيه الشروط بصورة أكثر من الآخرين، ويكون في الوقت نفسه أكثر مناسبة من غيره لظروف العصر، وبالتالي تُعقد له البيعة ويولى أمر الخلافة، وعلى ذلك فتحقيق المناط يُتطلب فيه أمران:

-       الأول: النظر في الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يراد جعله خليفة، وهذه مرجعها إلى الشرع؛ إذ هو الذي يحددها.

-       الثاني: النظر في وجود هذه الشروط وتحققها في آحاد الناس، وهذه تُعلم من المعرفة بالشخص وأحواله، فذلك نوع من الاجتهاد في التحقق من وجود المناط في آحاد الأشخاص (مجموع الفتاوى لابن تيمية، الاعتصام للشاطبي).

ومن البيّن أن طرق الكشف عن وجود المناط في آحاد الأشخاص قد تتعدد وتتباين وتكون كلها صالحة محققة للمقصود، ولا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يوجد إلا طريق واحد لتحقيق المناط، فإن تحقيق المناط تؤثر فيه عوامل كثيرة، منها طبيعة المناط نفسه من حيث الوضوح أو الخفاء، ومنها طبيعة الباحث نفسه من حيث العلم والخبرة، ومنها طبيعة الظروف المحيطة بالموضوع، لهذا كله فقد يختلف تحقيق المناط من بيئة إلى بيئة ثانية، ومن زمن إلى زمن آخر، بل قد يختلف في الزمن الواحد باختلاف الظروف المحيطة، من غير أن يؤثر ذلك على الحكم الأصلي؛ لأن الذي يتغير هو جهد الإنسان في الكشف عن المناط، أما وجود المناط نفسه فلا بد من تحققه في جميع الحالات، وهذا يفسر تعدد طرق التولية التي حدثت في فترة الخلافة الراشدة.

وقد عرف التاريخ السياسي للخلافة الراشدة عدة طرق في اختيار الخلفاء الراشدين، وهي:

أ‌-     الاختيار بواسطة أهل الاختيار (الحل والعقد): وهو أن يختار أهل الاختيار رجلاً ممن تتوفر فيه الشروط المطلوبة، وذلك بعد البحث وتقليب الآراء، ثم الاتفاق بعد التشاور فيما بينهم على الشخص المناسب ومن ثم مبايعته، ولا يضر ما يحدث من نقاش واختلاف في هذه الحالة في أول الأمر فذلك شيء لا بد منه، وإنما العبرة بالنهاية حتى يتفق أهل الاختيار، وقد حدث هذا في تولية أبي بكر رضي الله عنه، حيث اجتمع كبار الصحابة منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد بن عبادة، وبعد محاورات تخللتها بعض التباينات في وجهة النظر وقع الاتفاق على أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه- وتمت بيعته، وهو والله حقيق بها، وكذلك كان الأمر في بيعة علي رضي الله عنه (انظر في بيعة أبي بكر: (صحيح البخاري)، كتاب الحدود/باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، فتح الباري (12/149)، وفي بيعة علي: الطبقات، لابن سعد، (3/31)، وتاريخ الطبري، (5/152)، والتمهيد، للباقلاني، (ص 227)).

ب‌-  الاستخلاف: وهو أن يحدد الخليفة العدل إذا حضرته مقدمات الوفاة شخصاً بعده للخلافة ممن تتوافر فيه شروطها، وممن يسرع الناس إلى قبوله وبيعته، وذلك بعد أن يستشير أهل الحل والعقد فيما رأى من ذلك، كما حدث ذلك في تولية عمر رضي الله عنه، حيث اختاره أبو بكر الصديق، وعمر هو عمر.. فضائله معروفة مشهورة، وهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر، تتوفر فيه شروط الصلاح لمنصب الخليفة على أعلى درجاتها، ومع ذلك فإن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يولِّه بمجرد ذلك، بل شاور في ذلك كبار الصحابة، واستمع لرأيهم، وقد أقر كل من استشارهم أبو بكر بفضل عمر -رضي الله عنه- وصلاحه لذلك، غير أن بعضهم أشار إلى ما في عمر من غلظة، وقد بيّن لهم أبو بكر -رضي الله عنه- أن عمر هو أفضل المسلمين الموجودين على الإطلاق، وأن شدته ستخفّ كثيراً بعد أن يصير الأمر إليه (وقد كان)، وعلى ذلك تمت البيعة لعمر رضي الله عنه (يُنظر في تفاصيل ذلك: سيرة عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، (ص 44)، الطبقات، لابن سعد، (3/122)، تاريخ الطبري، (4/51)).

ت‌-  أن يجعل الخليفة الأمر بين جماعة ممن يستحقونها: وهو أن يحدِّد الخليفة العدل إذا حضرته مقدمات الوفاة عدداً من الأشخاص الذين تتوفر فيهم صفات الخليفة وممن لهم مكانة ومنزلة عند الناس؛ بحيث يسرعون إلى الموافقة على أيٍّ منهم ومبايعته، على أن يختاروا من بينهم واحداً للخلافة، كما فعل عمر -رضي الله عنه- حين حضرته مقدمات الوفاة، حيث جعل الأمر في ستة أشخاص هم: عثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وهم الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. وقد كان طلحة إذ ذاك غائباً، وعرض عليهم عبد الرحمن أن يخرج منها ويختار لهم منهم واحداً فرضوا، وقد اجتهد عبد الرحمن في ذلك، وأخذ يستشير في ذلك المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وأمراء الأجناد، حتى يقول عبد الرحمن في ذلك: «إني قد نظرت في أمر الناس؛ فلم أرهم يعدلون بعثمان»، وحينئذ بايع عبد الرحمن عثمان بالخلافة، وبايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون (انظر في بيعة عثمان: صحيح البخاري، كتاب الأحكام، والطبقات، لابن سعد، (3/61)، وتاريخ الطبري، (5/13))، قال النووي -رحمه الله-: «إن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت -وقبل ذلك- يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه، فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر، وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة، وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة، كما فعل عمر بالستة، وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة» (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي، (12/283)).

ففيما تقدم من الطرق السابقة نجد قاسماً مشتركاً بينها جميعاً، يتمثل في أمرين:

-       الأول: توافر شروط استحقاق الخلافة في الشخص المختار لذلك.

-       الثاني: موافقة أهل الاختيار (الحل والعقد) عليه.

وعلى ذلك فكل طريقة للاختيار يتحقق فيها هذان الأمران -من غير مخالفات شرعية- فهي طريق مقبولة شرعاً، وليس يتحتم الأخذ بكل التفاصيل الواردة في الطرق السابقة دون غيرها مما يحقق الأمرين المشار إليهما، فقد كان يكفي في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- مثلاً أن يدور عبد الرحمن بن عوف بنفسه على المهاجرين وأصحاب الفضل والسابقة في الإسلام من الأنصار وأمراء الأجناد؛ ليتعرف آراءهم فيمن يختارون ويقدمون، ويرون أنه أحق بالخلافة، لكن هذه الطريقة العملية التي اتبعها عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وإن كانت محققة للمقصود في زمنه فليست واجبة وجوباً عاماً تشمل عموم الزمان والمكان؛ لأنه لم يأت نص يُلزم بها، وإن كانت اجتهاداً موفقاً ومسدداً من الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- في زمنه.

__________________

المرجع: "مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي" – الشيخ محمد بن شاكر الشريف (باختصار يسير).

 

الأربعاء، أغسطس 05، 2009

السياسة الإسلامية -4- الحكومة (الخلافة) في النظام السياسي الإسلامي.جـ2.

ذكرنا أن الخلافة نظام سياسي تتحقق فيه أحكام كثيرة، نشرع الآن في أولها:

1 ـ أن يكون القائم عليه (الخليفة) مستوفياً للشروط الشرعية فيمن يسند إليه.

ذكر أهل العلم شروط استحقاق منصب الحاكم (الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الخليفة) و هي:

-       العدالة: بشروطها الجامعة (التحلي بالفرائض والفضائل، و التخلي عن المعاصي والرذائل و عما يُخلّ بالمروءة).

-       العلم: المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل و الأحكام.

-       الرأي و الحكمة: المفضيان إلى سياسة الرعية و تدبير المصالح.

-       سلامة الحواس و سلامة الأعضاء.

-       الشجاعة و النجدة: المؤديان إلى حماية البيضة و جهاد العدو.

-       النسب: و هو أن يكون من قريش (فإن لم يوجد من قريش مَن يستجمع الصفات المعتبرة وُلِّيَ الأمثل فالأمثل).

و ذكر أهل العلم شروط تولي منصب الحاكم و هي:

-       استكماله لشروط استحقاق منصب الحاكم.

-       الموافقة عليه و اختياره من أهل الاختيار.

و أهل الاختيار هم من ينتظم الأمر بهم و يتبعهم سائر الناس، و يطلق عليهم أهل الحل و العقد، و هم الرؤساء الذين تتبعهم الأمة في أمورها العامة، و أهمها نصب الحاكم، و كذا عزله إذا ثبت عندهم وجوب ذلك، ومن يملك التولية يملك العزل. و شروط اعتبارهم "أهلا لاختيار الحاكم" هي:

-       العدالة: الجامعة لشروطها.

-       العلم: الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق منصب الحاكم (على الشروط المعتبرة كما سبق).

-       الرأي و الحكمة: المؤديان إلى اختيار من هو أصلح للحكم، و أقوم و أعرف بتدبير المصالح.

__________________

المرجع: "مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي" – الشيخ محمد بن شاكر الشريف (باختصار و تصرف يسير).

المرجع: "الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية" مقال بمجلة المنار العدد 23 – الشيخ محمد رشيد بن علي رضا (باختصار و تصرف يسير).